فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

و{يَسْتَحْىِ} أصله يَسْتَحْيُ، عينه ولامه حَرْفا علة؛ أُعِلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت.
واسم الفاعل على هذا: مستحيٍ، والجمع مُسْتَحْيُون ومُسْتَحْيِين.
وقرأ ابن مُحَيْصِن {يستحِى} بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة؛ ورُوي عن ابن كَثِير، وهي لغة تميم وبكر ابن وائل؛ نُقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء؛ واسم الفاعل مُسْتَحٍ، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري.
واختلف المتأوّلون في معنى {يستحي} في هذه الآية؛ فقيل: لا يخشى؛ ورجّحه الطبري؛ وفي التنزيل: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] بمعنى تستحي.
وقال غيره: لا يترك.
وقيل: لا يمتنع.
وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفًا من مواقعة القبيح؛ وهذا مُحال على الله تعالى.
وفي صحيح مسلم عن أمْ سَلَمة رضي الله عنها قالت: جاءت أمّ سُليم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق.
المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قوله تعالى: {أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا} يضرب معناه يبيّن، وأن مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف مِن.
{مَثَلًا} منصوب بيضرب.
{بَعُوضةً} في نصبها أربعة أوجه:
الأول: تكون {ما} زائدة، و{بعوضةً} بدلًا من: {مَثَلًا}.
الثاني: تكون {ما} نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: {مَثَلًا} و{بعوضةً} نعت لما؛ فوصفت {ما} بالجنس المنكّر لإبهامها لأنها بمعنى قليل؛ قاله الفَرّاء والزجاج وثَعْلب.
الثالث: نصبت على تقدير إسقاط الجارّ، المعنى أن يضرب مثلًا ما بين بعوضة؛ فحذفت بين وأعربت بعوضة بإعرابها؛ والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها.
وهذا قول الكسائي والفرّاء أيضًا؛ وأنشد أبو العباس:
يا أحْسَنَ الناسِ ما قَرْنًا إلى قَدَمٍ ** ولا حِبالَ مُحِبٍّ واصلٍ تَصِلُ

أراد ما بين قَرْن، فلما أسقط بين نصب.
الرابع: أن يكون {يضرب} بمعنى يجعل، فتكون {بعوضةً} المفعول الثاني.
وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عَبْلَة ورُؤبة بن العَجّاج {بعوضةٌ} بالرفع، وهي لغة تميم.
قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن {ما} اسم بمنزلة الذي، و{بعوضةٌ} رفع على إضمار المبتدأ، التقدير: لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلًا؛ فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ.
ومثله قراءة بعضهم: {تَمَامًا عَلَى الّذِي أَحْسَنُ} أي على الذي هو أحسن.
وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي هو قائل.
قال النحاس: والحذف في {ما} أقبح منه في الذي؛ لأن الذي إنما له وجه واحد والاسم معه أطول.
ويقال: إن معنى ضربت له مثلًا، مَثلت له مَثَلًا.
وهذه الأبنية على ضربٍ واحد، وعلى مثال واحد ونوع واحد؛ والضَّرْبُ النَّوْع. اهـ.

.قال الألوسي:

والحياء كما قال الراغب انقباض النفس عن القبائح، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياء فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم: الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في القاموس خجل استحي تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة وللناس في ذلك مذهبان فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناءً على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، وبعض وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة، وقرأ الجمهور {يستحيي} بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية وقليلون بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع، أو العين فالوزن يستفل؟ قولان: أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعديًا بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما. اهـ.

.قال أبو حيان:

والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقة والمجاز، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه، وما استحال أوّلناه بما يليق به تعالى، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقًا لا خصوص المركب من هيئة، بخلاف قوله فيما سبق: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} لأن المعنىَّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله: {لن يخلقوا ذبابًا} [الحج: 73] وقوله: {كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا} [العنكبوت: 41].
وموقع إنّ هنا بيِّن.
وأما الإتيان بالمسند إليه علمًا دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضًا إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلًا من هذا القبيل.
ولهذا أيضًا اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلًا بالذباب والعنكبوت.
فإن قلت: إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالُنا نرى كثيرًا من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق:
من عِزّهم حجرَتْ كليبٌ بيتها ** زَربًا كأنهمُ لديهِ القُمَّل

وقول أبي الطيب:
أماتكمُ من قبل موتِكم الجهلُ ** وجركمُ من خفة بكمُ النمل

وقول الطرمّاح:
ولو أن بُرغوثًا على ظهر قملة ** يكرُّ على ضَبْعَيْ تميم لولَّت

قلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام، ومن جانب صور المعاني، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولًا عند قوم غير مقبول عند آخرين، ومقبولًا في عصر مرفوضًا في غيره، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان:
فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي ** وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عنك واسع

فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعُدَّ من الجفاء أو العجرفة، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع:
عَذير الحي من عَدوَا ** نَ كانُوا حَيَّةَ الأرض

وقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني:
ماذا رُزِئْنا به من حيَّةٍ ذَكَرٍ ** نَضْنَاضَةٍ بالرزايا صِلّ أَصلاَلِ

وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليًّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله:
أنت كالكلب في وفائك بالعهـ ** ـد وكالتيْس في قراع الخطوب

وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ** جلبن الهوى من حيث أَدري ولا أدري

وقد انتقد بشارٌ على كُثيِّر قوله:
ألا إنما ليلى عصا خيزُرانة ** إذا لمسوها بالأكُف تلينُ

فقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا، على أن بشارًا هو القائل:
إذا قامت لجارتها تثنت ** كأن عظامها من خيزران

وشبَّه بشار عبدة بالحيَّة في قوله:
وكأنها لما مشت ** أَيْمٌ تأود في كثيبْ

والاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل.
والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفًا لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه:
أحدها: إطباق العرب والعجم على ذلك أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء:
فقالوا في التمثيل بالذرة: أجمع من ذرة، وأضبط من ذرة، وأخفى من الذرة.
وفي التمثيل بالذباب: أجرأ من الذباب، وأخطأ من الذباب، وأطيش من الذباب، وأشبه من الذباب بالذباب، وألح من الذباب.
وفي التمثيل بالقراد: أسمع من قراد، وأصغر من قراد، وأعلق من قراد، وأغم من قراد، وأدب من قراد.
وقالوا في الجراد: أطير من جرادة، وأحطم من جرادة، وأفسد من جرادة، وأصفى من لعاب الجراد.
وفي الفراشة: أضعف من فراشة، وأطيش من فراشة، وأجهل من فراشة.
وفي البعوضة: أضعف من بعوضة، وأعز من مخ البعوضة، وكلفني مخ البعوضة، في مثل تكليف ما لا يطاق: وأما العجم فيدل عليه كتاب كليلة ودمنة وأمثاله، وفي بعضها: قالت البعوضة، وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها؛ يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير، فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك.
وثانيها: أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة، قال: مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة، فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان، فقال عبيد الزراع؛ يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ قال: بلى، قالوا: فمن أين هذا الزوان؟ قال: لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان جميعًا حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزمًا ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن.
وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر، والقرية هي العالم، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين، وجميع عمّال الأثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء، وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع، وأضرب لكم مثلًا آخر يشبه ملكوت السماء: لو أن رجلًا أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره، ونجى من اقتدى به، وقال: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح، وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند الله وقال: نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله؟ أفلا تعقلون، وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم، فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل وأيضًا فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبينًا مكشوفًا، وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح، وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان، أما قولهم: ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى، قلنا هذا جهل، لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلًا لعباده من الصغير بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة، فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح. اهـ.